ملفات

أمريكا اللاتينية.. أرض المغرمين بالاتفاقيات التجارية

1300 اتفاقية للتعريفات الجمركية لتسهيل حركة السلع الأساسية
       انعدام القدرة التنافسية لقطاعات التصنيع وراء ضعف الاستفادة منها
 الصراعات السياسيَّة تُفشل اتفاقيات التكامل الاقتصادى الإقليمية
       شهية أكبر للاتفاقيات رغم الانسحاب الأمريكى من شراكة المحيط الهادئ 
زيادة نسبة الفقر جنوب المكسيك لتجاهل النشاط الزراعى
تمتلك دول أمريكا اللاتينية الغنية بالموارد الطبيعية إيماناً راسخاً بالاتفاقيات التجارية كوسيلة لزيادة التبادل التجارى، خاصة مع دول العالم المتقدم؛ حيث تقف هذه الاتفاقيات خلف %70 من تجارتها مع إضافة حصيلة دول منطقة الكاريبى معها.
وبلغ عدد الاتفاقيات نحو 270 اتفاقية لتحرير التجارة موزعة على معظم أنحاء العالم، بما فيها الدول السبعون فى القارة ومنطقة الكاريبى.
غير أن الصين مثلت استثناءً لهذه القاعدة؛ حيث نجحت فى تصدر الدول الشريكة تجارياً للقارة الجنوبية دون توقيع اتفاق تجارى واحد، ويعزو البعض ذلك إلى استهدافها واردات السلع الأساسية.
لكن رغم نجاح هذه الاتفاقات فى توليد مليارات الدولارات، فإنَّها كانت سلاحاً ذا حدين؛ حيث أدت لإضعاف قطاع الصناعات التحويلية؛ نظراً لاستهداف الشركاء التجاريين الموارد الطبيعية الرخيصة، خاصة الصين والدول الصناعية الكبرى.
ويرصد هذا الملف الشغف اللاتينى بتوقيع اتفاقات تحرير التجارة، ويلقى الضوء على الرابحين والخاسرين من ورائها.
أصبحت شيلى والمكسيك وبيرو، فى مارس الماضى، أعضاء فى الاتفاق الشامل والتقدمى للشراكة عبر المحيط الهادئ (CPTPP) والذى يخفض الرسوم الجمركية بين 11 دولة، بما فى ذلك اليابان وكندا؛ حيث تمثل دول المجموعة %13 من حجم الاقتصاد العالمى.
ورغم انسحاب الرئيس الأمريكى دونالد ترامب من الصفقة والشكوك حول مستقبل اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية يبين برنامج عمل الاتفاقية، فإنَّ دول أمريكا اللاتينية لا تزال لديها شهية لاتفاقيات التجارة.
ويأتى الظهور القوى لأمريكا اللاتينية باتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ فى سياق طبيعى لتاريخها الطويل من اتفاقيات التجارة الحرة مع بلدان خارج أمريكا الجنوبية، وكذلك الكتل التجارية الإقليمية.
وفى داخل أمريكا اللاتينية، فإنَّ أكبر كتلة هى «ميركوسور – السوق الجنوبية المشتركة»، التى يتمتع أعضاؤها الكاملون، وهم الأرجنتين، والبرازيل، وباراجواى، وأوروجواى، بحرية التجارة، واعتماد تعريفات خارجية مشتركة على الواردات من خارج الكتلة، ويمثل الناتج المحلى الإجمالى لهذه الدول مجتمعة 2.9 تريليون دولار.
وتعتبر ثانى أكبر مجموعة تجارية فى المنطقة هى تحالف المحيط الهادئ، الذى يضم شيلى، وكولومبيا، والمكسيك، وبيرو، ويبلغ إجمالى الناتج المحلى لدوله مجتمعة حوالى 1.8 تريليون دولار، وخفضت الدول الأعضاء حوالى %92 من التعريفات التجارية، فيما يبحث التحالف عن اتفاقيات خارجية خاصة اتفاقيات تجارة حرة مع دول آسيا والمحيط الهادئ.
وفى الواقع، تحتل أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبى المرتبة الثانية عالمياً بالنسبة لاتفاقيات التعريفات النشطة، والتى تضم أكثر من 1300 اتفاقية.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، أبرمت «شيلى» صفقة تجارية مع الصين، كما أن للاتحاد الأوروبى اتفاقاً تجارياً مع المكسيك، والذى تم تحديثه فى أبريل الماضى، بالإضافة إلى اتفاق كولومبيا مع الولايات المتحدة.
لماذا يفعلون ذلك؟
الصفقات التجارية تحفز الصادرات من الناحية النظرية، وتزيد من قدرة الشركات المحلية على المنافسة، وبما أن الشركات قادرة على البيع للأسواق دون مواجهة التعريفات الجمركية أو نظام الحصص، فإنَّ الصادرات ستزداد؛ لأنها ستتنافس على مستوى متكافئ مع الشركات الأجنبية.
وفى المقابل، سيتم دفع الشركات المحلية لتصبح أكثر كفاءة؛ لأنها تتنافس مع الشركات الدولية، كما أن دافع الإنتاجية مدعوم بمدخلات أرخص من الدول الأعضاء فى اتفاقية التجارة الحرة، وفى الوقت نفسه سيستفيد المستهلكون من الوصول إلى سلع أرخص.
علاوة على ذلك، تؤدى اتفاقيات التجارة الحرة إلى مستويات أعلى من الاستثمار الأجنبى المباشر، تجتذبها بفضل حرية الوصول إلى الدول الأعضاء فى الإتفاقيات.
وعلى سبيل المثال، قد تنشئ شركات تصنيع السيارات اليابانية مصانع فى المكسيك؛ لأنها ستتمكن من تصدير السلع إلى الولايات المتحدة دون رسوم جمركية؛ نتيجة اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية.
وبالنسبة لبلدان أمريكا اللاتينية المعزولة تاريخياً عن طرق التجارة العالمية، وتعانى من عجز الإنتاجية يمكن لاتفاقيات التجارة الحرة أن تكون بمثابة محفزات للاستثمار، وتحقق لها مكاسب إنتاجية.
 نجاح حلف المحيط الهادئ 
يختلف تحالف المحيط الهادئ عن معظم الكتل الإقليمية لأمريكا اللاتينية؛ لأنه تم تأسيسه للسعى إلى إقامة علاقات أوثق مع اقتصاديات المحيط الهادئ، بدلاً من تعميق الروابط الداخلية القائمة على الأيديولوجية السياسية على عكس تحالف فنزويلا – كوبا، وتحالف دول أمريكا الجنوبية فكلاهما فشل مع انهيار اقتصاد فنزويلا.
وتأسس هذا التحالف فى عام 2011؛ لتعزيز التجارة العالمية للدول الأعضاء، وقد نجح فى الوصول بها إلى 1.03 تريليون دولار فى عام 2016 بدلاً من 876 مليون دولار خلال عام 2010.
ويسهم العمل ككتلة تجارية فى دعم قدرة جميع الدول الأعضاء على الوصول إلى اتفاقيات ثنائية، ويصبح من السهل توقيع اتفاقيات التجارة الحرة مع الاقتصادات التى تسعى للوصول إلى سوق أمريكا اللاتينية، فعلى سبيل المثال يوجد اتفاق بين التحالف وأستراليا ونيوزيلندا قيد التفاوض حالياً.
اتفاق «ميركوسور» الفاشل
كان اتفاق «ميركوسور» مشروعاً سياسياً واقتصادياً عند توقيعه فى عام 1991 وفى ذلك الوقت، كانت البرازيل والأرجنتين فى تنافس سياسى شرس من أجل الهيمنة الإقليمية وكانت التجارة الثنائية محدودة.
كانت الاتفاقية ناجحة فى البداية، وارتفعت التجارة إلى جانب تحسن التقارب السياسى، وفى السنوات العشر الأولى، قفزت التجارة داخل الكتلة إلى 40 مليار دولار خلال عام 2000 بدلاً من 4 مليارات دولارعام 1990، وفى هذه الفترة، انضم لاتفاق «ميركوسور» كل من بوليفيا، وشيلى، وبيرو، وبدأت المحادثات مع الاتحاد الأوروبى.
ولكن نشأت مشاكل بعد انخفاض قيمة العملة البرازيلية عام 1999، وتخلفت الأرجنتين عن سداد ديونها فى عام 2001، ويعود ذلك جزئياً لعقبات سياسية وقفت حجر عثرة على الطريق أمام التكامل الاقتصادى الحقيقى.
ويلوم الخبراء فى تقرير موقع «لاتين أمريكا إنفيستور» الإجراءات الانفرادية من البرازيل، والأرجنتين التى دمرت المجموعة، فعلى سبيل المثال، ألغت الأرجنتين الترخيص التلقائى لمئات الواردات فى عام 2011، وفرضت البرازيل قيوداً على جهود مكافحة الإغراق على الصين فى عام 2009.
وقد أدى التغيير السياسى فى الأرجنتين والبرازيل إلى إعادة تنشيط الكتلة مؤخراً، لكنَّ المحادثات مع الاتحاد الأوروبى وكندا لتوقيع اتفاقية للتجارة الحرة ما زالت تلقى بظلالها على محاولات دعم التحالف.
وتفتح الانتخابات البرازيلية، فى وقت لاحق، من هذا العام الباب أمام عدم اليقين السياسى الذى من المرجح أن يؤدى إلى تراجع التكامل الإقليمى فى قائمة الأولويات.
نتائج مختلطة لاتفاق التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا)
 وقعت اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية فى عام 1994 بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، لتصبح أكبر كتلة تجارية فى العالم، وتم إلغاء التعريفات الجمركية على السلع المصنعة فعلياً بين الدول الأعضاء، لكنَّ الرسوم الجمركية على السلع الزراعية انخفضت ببطء أكبر، وخلقت الاتفاقية تناقضات كبيرة فى اقتصاد المكسيك، لكنَّ تكيفت مختلف مناطق البلاد مع التجارة الحرة للتعريفات الجمركية.
ومن ناحية، أسهم تدفق الاستثمار إلى التصنيع عالى التقنية بالشمال الصناعى فى زيادة الأجور والإنتاجية، لكن من ناحية أخرى، أهمل الاتفاق الجنوب الزراعى إلى حد كبير، فلم يستطع المزارعون منافسة المزارع الأمريكية الكبيرة، وارتفعت مستويات الفقر، ما أجبر السكان على الهجرة من الجنوب إلى شمال المكسيك والولايات المتحدة.
ووجد مركز «وودرو ويلسون» البحثى، أنَّ %47 من سكان الريف المكسيكيين فى الجنوب فقراء للغاية، مقابل %12 فى الشمال، وقد لعبت المنافسة المتزايدة نتيجة اتفاقية «نافتا» دوراً فى ارتفاع معدلات الفقر.
وبعد مرور أكثر من 20 عاماً على توقيع اتفاقية «نافتا»، كان أداء اقتصاد المكسيك أقل من باقى دول المنطقة؛ حيث نما بمتوسط %1 فقط من عام 1994 إلى عام 2017، مقارنة بنسبة %1.4 لباقى أمريكا اللاتينية، فى حين لم تتغير مستويات الفقر عن عام 1994.
هل تعزز الاتفاقيات التجارة بالفعل؟
– الأدلة مختلطة هنا، فعلى سبيل المثال، نمت البضائع المتداولة داخل «نافتا» إلى 1.1 تريليون دولار فى عام 2016، من 191 مليار دولار عام 1993، بزيادة قدرها %267، وهو معدل مثير للإعجاب بالتأكيد، ولكن وجهة النظر تختلف عندما تشير الأرقام إلى أن تجارة الولايات المتحدة مع دول خارج الاتفاق نمت بنسبة %242 خلال الفترة نفسها.
ما يهم حقاً هو التوافق التجارى، فبدلاً من الصفقات التجارية، يتطلب الأمر أكثر بكثير من تخفيضات الرسوم الجمركية لجعل الدول تبدأ فى تداول السلع، فبالنسبة لأمريكا اللاتينية، كانت شهية الصين للمواد الخام المحرك الأكثر أهمية للاتجاهات التجارية، وليس مجرد اتفاق تجارى تم توقيعه منذ التسعينيات.
وبالنظر إلى اتفاق «ميركوسور»، على سبيل المثال، فقد نمت صادرات البرازيل إلى الأرجنتين فى أعقاب الاتفاق الذى تم توقيعه عام 1991، ولكنها انخفضت بعد الانهيار الاقتصادى للأرجنتين فى عام 2001.
وبدلاً من ذلك، كان الدافع الرئيسى للتجارة فى البرازيل هو الصعود السريع للصين بوصفها مركزاً صناعياً، وفى عام 2009، أصبحت أكبر شريك تجارى للبرازيل وأكبر سوق للسلع.
وتواصل بكين شراء السلع من البرازيل أكثر من أى بلد آخر وفقاً لبيانات الأمم المتحدة وذلك دون أى اتفاق تجارى بين البلدين ومع عدد قليل من المشاحنات التجارية.
هل الصفقات التجارية جيدة لغالبية سكان أمريكا اللاتينية؟
 الصفقات التجارية تشجع التخصص فى مجالات الميزة النسبية لكل بلد، وفى هذه الحالة يمكن أن يكون نموذج النمو بهذه الطريقة عالى التكلفة عندما يتم توقيع الصفقات مع الدول الصناعية الكبرى، فبالنسبة لمعظم بلدان أمريكا اللاتينية، تكمن ميزتها فى السلع لذا فإنَّ توقيع صفقات تجارية مع الاقتصادات المتخصصة فى السلع والخدمات المصنعة، مثل الاتحاد الأوروبى أو الصين، يرسل المزيد من الاستثمارات إلى القطاع فى الدول الأولى.
ولكن هذا ليس جيداً للنمو على المدى الطويل؛ حيث إنَّ تقلبات أسعار المواد الخام التى لا يمكن السيطرة عليها تجعل الاقتصادات عُرضة للصدمات الخارجية، ويعانى مسار النمو الاقتصادى نتيجة ذلك، ويتطلب الأمر أكثر بكثير من تخفيضات التعريفات لجعل الدول تبدأ فى تداول السلع خاصة المصنعة.
ومع انطلاق الطفرة فى الاتفاقيات التجارية أوائل التسعينيات، بدأ الانخفاض المطرد فى حجم اقتصاد التصنيع بأمريكا اللاتينية، ولم يكن هذا مجرد أثر للاتفاق التجارى، فقط، فقد كان صعود الصين المحرك الأكبر لهذا التغيير؛ حيث اشترت السلع لتغذى صعودها وغمر السوق العالمى بمصنوعات رخيصة، ما يعنى أنها لعبت دوراً فى ذلك.
وتشير بيانات البنك الدولى إلى اتجاه هبوطى فى قطاع الصناعة التحويلية بالمنطقة كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى إلى %13.72 فقط عام 2016 من متوسط %24.5 خلال عام 1989.
 هل تستفيد بريطانيا عقب الخروج الأوروبى من اتفاقيات أمريكا اللاتينية؟
 فى عالم ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، قد تبدو أمريكا اللاتينية وكأنها أرض الفرص للشركات البريطانية التى تبحث عن أسواق جديدة لسلعها وخدماتها، ومن المفارقات أن الدول الأسهل للتعامل معها هى تلك التى لديها بالفعل صفقات تجارية مع الاتحاد الأوروبى.
ويعتقد معظم المحللين، أنَّ بإمكان المملكة المتحدة «نسخ ولصق» الاتفاقيات الثنائية الجديدة القائمة على الاتفاقات القائمة مع الاتحاد الأوروبى من أجل الإسراع فى التوصل للاتفاق بشكل فورى بما لا يسمح بانقطاع التجارة بعد انتهاء إجراءات خروج بريطانيا من التكتل الأوروبى.
ومما سيدعم سرعة تفعيل الاتفاقات أنها ستكون نسخاً متطابقة فلن تحتاج إلى التصديق عليها فى برلمانات أى من البلدين.
وسيكون هذا فقط للحفاظ على الوضع الراهن دون خسائر، وستكون الجائزة الكبرى هى التفاوض على صفقة جديدة مع «ميركوسور» أو تحالف المحيط الهادئ.
ولفت تقرير الموقع اللاتينى إلى أن موقف بريطانيا التجارى الأقل حمائية يعنى أنه من الناحية النظرية، يمكن أن تكون هذه الاتفاقيات طويلة المدى أفضل بكثير من اتفاق الاتحاد الأوروبى فى أمريكا اللاتينية، ومع ذلك فمن المحتمل أن يستغرق ذلك عقداً من الزمن للتفاوض والتصديق؛ حيث    استمرت المحادثات بين «ميركوسور» والاتحاد الأوروبى ما يقرب من عقدين.
ويتمثل التحدى الرئيسى لشركات بريطانيا فى توفير منتجات وبضائع تريدها أمريكا اللاتينية، وتكون ناجحة فى بيعها    فكما هو عليه الحال، فإنَّ البرازيل هى أكبر شريك تجارى لبريطانيا، ولكنها الوجهة الوحيدة لـ%0.63 من صادراتها، وتراجعت المكسيك بنسبة %0.42، تليها شيلى بنسبة %0.15. وفى الوقت نفسه، فإنَّ البرازيل هى المصدر الرئيسى للواردات بنسبة %0.51.
وعموماً فإنَّ التوصل لاتفاق تجارى أمر جيد، لكن كما أظهرت الصين فيمكن القيام بأعمال تجارية جيدة مع أمريكا اللاتينية دون اتفاق واحد.

لمتابعة أخر الأخبار والتحليلات من إيكونومي بلس عبر واتس اب اضغط هنا

الأكثر مشاهدة

النفط يصل لأعلى مستوياته منذ شهر وسط توقعات بارتفاع الطلب

استقرت أسعار النفط اليوم الخميس لتقترب من أعلى مستوى في...

“بولد رووتس” للتسويق العقاري تدشن أول مكتب إقليمي لها في دبي

عقدت شركة "بولد رووتس" للتسويق العقاري أولى فعالياتها في ختام...

منطقة إعلانية